مسرح سوق أهراس الجهوي يشرّح الصناعة الدراماتورجية

الصناعة الدراماتورجية
16/10/2023 - 10:37

اهتمّ مسرح سوق أهراس الجهوي، الأحد، ببحث آليات ومفاتيح الصناعة الدراماتورجية.

برسم الورشات التكوينية للفن المسرحي التي تحتضنها سوق أهراس منذ صباح الخميس، خاض الباحث المسرحي رابح هوادف عبر محاضرته "الصناعة الدراماتورجية ... آليات ومفاتيح" في فن تركيب النصوص المسرحية، وما يتصّل بتصنيع المسرح بكلّ مكوّناته من النص كتابةً ونقداً ودراسةً ورسالةً ورؤى، إلى مخططات السينوغرافيا والكوريغرافيا والموسيقى وتحضير سائر حيثيات العرض.

ولاحظ أ. هوادف أنّ الصناعة الدراماتورجية لا تتوقف عند حدود التأليف الدرامي، بل تُعنى أيضاً بوضع أدوات النص ووسائل الخشبة في خدمة المعاني المتعددة والمتواصلة للنص الدرامي، على أن يُرافق ذلك ضرورة اختيار تأويل معين أو توجيه العرض وفق هذا التأويل.

وأحال المُحاضر على الناقد الفرنسي برنارد دوت وتشديده على أنّ "الذهنية الدراماتورجية" تنضج بالعلاقة الثنائية بين الإخراج والدراماتورجيا لبناء علاقة جديدة بين النص والعرض، بمعزل عن العادات والتقاليد والإيديولوجيات، لذا سادت الدراماتورجيا في العملية المسرحية، بوصفها ممارسةً ذهنيةً وعمليةً، وأصبحت جزءاً رئيساً من العمل الاخراجي حتى في حال غياب الدراماتورج، فبات الكثير من المخرجين يقومون وحدهم بنوع من القراءة الدراماتورجية من أجل التحضير للعروض، هذه القراءة يمكن أن نطلق عليها عملية "مسرَحَة" أو "تمسرح".

وبمنظور عملي، أفاد أ. هوادف، أنّه يتعين على الدراماتورج:

  • التمتّع بالرؤية الفلسفية الواضحة
  • الدراية بفنون المسرح ومذاهبه وأشكاله
  • توضيح الأفكار المطروحة، بحيث يتمّ أخذ الأفكار الموجودة في النص ويجري إسقاطها عبر حزمة صور وحركات قوية. ‏ 

وفي حالة الألماني "برتولد بريشت" الذي عمل دراماتورجيًا مع "رينها ردت"، جعل الدراماتورجيا تعني الوظيفة الايديولوجية، وتبنّى بريشت فكرة:

  • قيام الإخراج بالإعداد التقني المشهدي scénique للعمل المسرحي، في المقابل، تقوم الدراماتورجيا بالإعداد النظري خاصةً بناء الحكاية Fable 
  • جعل بريشت من الدراماتورج المسئول عن العرض ومنسّقه. 

و أحال أ. هوادف إلى تجارب دراماتورجية هامة على مستوى العالم العربي، من صلاح القصب، وقاسم محمد، وكاظم النصار (العراق)، مروراً بكل فاضل الجعايبي، ومحمد إدريس (تونس)، سليمان البسام (الكويت)، ووصولاً إلى حكيم حرب، مجد القصص، ونبيل الخطيب (الأردن)، وكلهم اتخذوا الخيار الدراماتورجي طريقةً في إبداعهم المسرحي، على الرغم من اختلاف تجاربهم.

فالقصب اعتمد قراءةً تأويليةً تختزل النص، وتعصف به أحياناً، بينما اجتهد قاسم محمد في إطار التراث والثقافة الشعبية، من خلال صياغة مسرحية يقوم على الطقس الشعبي، في حين تميّز الجعايبي وإدريس بإضفاء جمالية رفيعة على تجاربهما التي تنهل من الواقع موضوعات في غاية الحساسية والجرأة، وأحياناً المسكوت عنه، أو غير المفكُّر فيها، بسبب هامشيتها من وجهة نظر المبدعين التقليديين.

وعمد البسام إلى تشريح أشهر تراجيديات شكسبير (هاملت، ماكبث، ريتشارد الثالث)، وحوّل شخصياتها الكلاسيكية إلى شخصيات منبوذة معاصرة وقد وصفت صحف بريطانية تجربته "مؤتمر هاملت" بأنه أجرأ عمل سياسي يفضح الاستبداد والحروب. 

وفي المُجمل، رصد أ. هوادف 7 آليات أساسية في الصناعة الدراماتورجية:

أولاً: الاستفادة من مبدأ الممارسة العامة الذي ينتهجه الأخصائيون الاجتماعيون في الخدمة الاجتماعية، وذاك مرتبط بالإجابة عن 5 أسئلة أساسية: ماذا؟ أين؟ لماذا؟ كيف؟ لمَ؟

ثانيًا: نلتقط نصًا أعجبنا ونبدأ بالتفكير في إنتاجه، فنبدأ أولى خطوات صناعته عبر عصر جوهره، فرزً وغربلة، وذاك ليس تقليلاً من المكتوب الأصلي، بقدر ما هو تكثيف للنص وصقل عمقه، فالمؤلف لا يموت في المسرح، بل يُصبح الشرارة التي تُشعل فتيل الصناعة المسرحية.

ثالثًا: الاطلاع والإلمام المتسع بالمهارات والأدوار مثل التأليف والتصميم السينوغرافي والتخطيط الحركي والحيل الإخراجية، فضلاً عن صياغة الدوال والمدلولات حتى يكون العرض منسجمًا مع كافة أطياف المتلقي الذي نجد فيه المثقف من النخبة والشعبي من العوام، وتكون تلك الصياغة مبنية على البحث الذي يوفّق بين السطح والمضامين لإتقان تصميم الرمز وتحريكه ضمن اللعبة الدرامية، وليس من الضروري أن يكون بين يديك نصًا نموذجيًا خلابًا، بل ستكفيك الفكرة أو المقصد أو الحالة المقتبسة لتعيد قراءة النص وتضع قواعد لعبته من جديد.

رابعًا: القدرة على تدريب عناصر العمل وخصوصاً من يؤدي على الخشبة من ممثلين وعازفين وراقصين وغيرهم، متحكمًا ومراقبًا لكل تلك الأدوات.

خامسًا – شبكة التحليل: القيام بتحليل نص مسرحي ما، يقتضي تهيئة اختيارات الإخراج المسرحي المستقبلي، وهذا يفرض الاستفادة الجامعة من علوم التاريخ، والاجتماع، والتحليل النفسي، واللسانيات، والسميولوجيا.

ما تقدّم سيُمكّن من التأويل البراغماتي للنص ومنح الإخراج الأبعاد المطلوبة، والحركات العميقة، والبنيات الإيديولوجية.

سادسًا – التجزيء التدريجي للخشبة: تشريح الفضاء الركحي، ولا يتوقف ذاك التشريح على تجزيئ النص فقط، بل يمتدّ إلى اختيارات العرض أكثر عبر ضبط تموقع الممثلين وحيثيات الحبكة، والحركات فوق الخشبة، وتغييرات الإيقاع، (وهذا ما من شأنه أن يوفّر علينا الاقتصار على التحليل النفساني للنص المسرحي من خلال الشخوص، وحوافزها المفترضة فحسب).

سابعًا -البحث عن نقط الارتكاز الخاصة بالممثلين وبكل عناصر العرض: عبر وضع علامات ترقيم دراماتورجية لقراءة الحبكة، أو ببساطة، لتلاحق أحداث الفعل المسرحي، وذاك متصّل بـ:

  •          تحديد مواطن الالتباس في النص، وتوزيع أدوار الممثلين الذين يساهم المخرجون في تحديد وظائفهم، وذاك التحديد ينتج طبعاً عن ممارسة التهيئة الدراماتورجية.
  • بناء وتوزيع الحركات الجسدية والأدائية، عبر نسج سلسة من المواقف أو الحركات الذاتية التي تقحم الممثلين في أعماق الأدوار.
  • جعل الممثل “دراماتورجياً متحركاً” عبر إسهامه في إعداد الإخراج المسرحي، واستقرائه لكيفيات الأداء حركيًا وصوتيًا.

وأبرز المحاضر أنّ الدراماتورجيا المنتمية للكلاسيكية هي هيكل الإخراج، وبنيته الخفية، فإذا “كان الممثلون دراماتورجيون متحركون”، فإنّ الإخراج سيكون دراماتورجياً متحركة.

ولاحظ أ. هوادف أنّ العالم الآن تخطى مرحلة الدراماتورج إلى فكرة الممارس المسرحي "النيو دراماتورج" New Dramatorg، وهو قائد كتيبة البحث التي تصنع العرض، فـ "النيو دراماتورج" مزيجٌ من المؤلف والمخرج والناقد والباحث والمعالج والمدرب والمصمّم، وعليه أن يلمّ قدر المستطاع بأهم المهارات لهذه الأدوار، ويكوّن فريقاً يضمّ متخصصًا يُستعان به في تحقيق العرض المتكامل ومنحه توابل الابتكار والتجديد والمعاصرة.

التحليل الدراماتورجي المبتكر  

أشار أ. هوادف إلى أنّ الطرق الجديدة للتحليل الدراماتورجي، أثبتت أنها في مستوى التحولات الكبرى التي عرفتها الكتابات، والتجارب المشهدية، والأدائية، مضيفاً: "تمنحنا تأملات بيتر ستامرPeter Stamer  تركيباً فريداً للإمكانات المتاحة من طرف الدراماتورجيا الأدائية، وذاك مرادف للمبتكر، والعملي، والتجريبي".

ويتجسد ما تقدّم وفق 7 رؤى:

أ –  إنّ معيار الدراماتورجيا البصرية لا يتمثل في غياب النص على الخشبة، بل هو شكل سينوغرافي يكون فيه المظهر البصري مهيمنًا إلى الحدّ الذي يفرض فيه نفسه باعتباره مكوّناً للخصوصية الرئيسية للتجربة الجمالية.

ب – إنّ للتجربة البصرية قوانينها الخاصة، وهي لا تخضع للقوانين المتعلقة بالحكاية أو السرد، بل تبدو مناقضة لها بفعل المفارقة الموجودة بينهما.

ج – يُمكن النظر إلى الدراماتورجيا، والإخراج المسرحي البصري باعتبارهما كتلة بصرية، موضوعة على الخشبة دون تعليق، سواء كانت هذه الكتلة مستقلة، أو كانت مفروضة من منظور نص مسموع بشكل من الأشكال.

على هذا الأساس، تتحدث كريستين ستالبيرت Christine stalpeart عن جون لوويرس Juan Lauwers، وعن “درماتورجيا بصرية متطورة جدا تكون فيها الصور مستقلة، تبني أدواتها بموازاة مع مقاربته المادية للغة والنص، وتمنح المتفرج “قراءات” لتراجيديات شكسبير، مخالفة لنبرة السرد".

د – لا تتجلى مهمة الدراماتورج فقط في التعرف على هذه البنيات الشكلية فحسب، بل في إضفاء دلالة ثقافية، وإيديولوجية. ومن ثمة، محاولة ربطها بالتاريخ... ويجب أن تأخذ بعين الاعتبار تغيّر التقويم من طرف الجمهور.

ه – في الشق الخاص بالكوريغرافيا، تتأسس رؤية الدراماتورج على ما هو خارج اللغة، على الحركة، وليس على الحركات الدرامية والشخصيات، حيث يشتغل الدراماتورج على استقراء الحركة، وعلى جعلها تُرى، وتحكي قصة، ذلك أنّ الفكرة على الخشبة لا تتخذ لها معنى إلا إذا تمثلت أجسادً متحركة، وأصواتا مغناة، وإلقاء جسديًا مُتموقعًا.

وعندما يصبح المحكي في المتناول باعتباره مادةً لـ "لحكي" الكوريغرافيا، فإنّه يتحول إلى قوة غير متوقعة، قابلة للنقل. في الحالات الثلاث – المقروء، المرئي، المحكي-يُترجم الدراماتورج بعض الأفكار والفرضيات إلى أشكال محسوسة، يختبرها المخرج، أو الكوريغراف خلال التداريب.

و – لا يتوقف عمل الدراماتورج عند هذا الحد، ذلك أنه يعمل إلى جانب المخرج، على استكشاف المواد التي اشتغل عليها الكوريغراف بغية استيعاب بنياتها، وتحويل الحركات إلى قرارات، وذاك الهدف من كل نشاط دراماتورجي.

س – يقترح بيتر بروك على المخرج إيجاد شكل أو جدول قبلي ناتج عن الأسئلة الخارجية التي يطرحها المخرج والدراماتورج، على نحو يدفع مسار المسرحة théâtralité  وممكنات النص.

وانتهى أ. هوادف إلى أنّه ليس شرطاً أن يكون الدراماتورج مجرد شخص واحد، فلربما يكون الدور موزّعاً على عدّة أشخاص، وتبقى العبرة في تقديم تجارب جديدة بقراءات متجدّدة تمكّن من تصنيع النتاجات الخلاّقة.

مرافقة الطاقات الجديدة

في دورته المستمرة (12 – 21 أكتوبر الجاري)، حرص مسرح سوق أهراس على تفعيل 7 ورشات تكوينية اعتباراً من هذا الخميس، في دورة تلوح واعدة وتعوّل على مرافقة الطاقات الجديدة.

وعلى امتداد عشرة أيام، يخضع كوكبة من المتربصين لتكوين مكثّف في فنون التمثيل والإخراج والكتابة الدرامية والسينوغرافيا والتعبير الجسدي ومسرح الطفل والتنظيم الإداري، فضلاً عن معارف درامية وعروض فرجوية. 

ويضمّ الفريق المؤطّر أسماء وازنة يتقدمها المخرج والأكاديمي المخضرم مالك العقون، إلى جانب الفرسان إسماعيل سوفيت، سليمان حابس، د. جلال خشاب، أ. مراد بن جريو، جمال قرمي (معتنق السياحة المسرحية)، خالد بلحاج، العمري كعوان، فوزي بن حيمي، وشكّلت الورشات هامشاً مشرّعاً أمام رابح هوادف وأيوب عمريش وبوبكر سكيني لملامسة ثيمات موصولة بالدراماتورجيا والمسرح العلاجي ومفهوم التنظيم الإداري. 

ويعمل المؤطرون على النهوض بالإبداع المسرحي لدى مجموعة من الناشطين والمساهمة في إعداد أطر مسرحية قادرة على التفاعل وممارسة ثقافة الحوار والتواصل، وتشجيعهم على ممارسة المسرح لأجل تطوير قدراتهم وزيادة تجربتهم، لتكوين جيل يُثري الحركة المسرحية.

نوّه مدير مسرح سوق أهراس الجهوي، الأستاذ الفنان محمد إسلام عباس إلى أنّ الورشات التكوينية التي تعدّ الثانية من نوعها بعد دورة 2021، ستعنى بتعميق الرسكلة في فنون الركح والانتقال إلى نمط جديد في دروب استثمار التكوين المسرحي بالانفتاح أكثر على سائر المهن المسرحية.

 وفي امتداد لدورة 2021، يعوّل مسرح سوق أهراس الجهوي على استقصاء المصادر الذاتية عند الممثلين وتنمية الحواس (الملاحظة – التركيز، التخييل)، من خلال 3 محاور كبرى، هي: الظروف المقتـرحة، الفعل الدرامي، الرؤية الداخلية.

ويراهن أبناء المنطقة التي أنجبت أبو ليوس وسان أوغستين ومصطفى كاتب والطاهر وطار على رسكلة المتربصين في فنون المسرح، مع التركيز على الإرشادات المسرحية، والتحليل من خلال فهم النصوص، تلخيص مضامين المسرحيات بأساليب خاصة واستنتاج القضية المطروحة والمغزى، مع استخراج الشخصيات وأدوارها وسماتها النفسية والاجتماعية والفكرية والجسدية، والنماذج البشرية التي تمثلها، والوقوف على البنية العاملية للمسرحيات والقيم والحوار، إضافة إلى الصراع الدرامي والخطاطة السردية، وصولا إلى جماليات الممارسة النقدية.   

بدوره، يتطلع الفنان سليمان حابس لتمكين المتربصين من مفاتيح التعبير الجسدي كفن جميل قائم بذاته، ويحرص حابس على تمكين المتربصين من خبايا الكلام عن طريق الحركة، وترك الجسم يدخل في عالم الطبيعة والخيال والتركيز على شيء ما لتبليغه إلى الآخرين، فضلا عن تلقين الخيال المعتمد على الارتجال المطلق (البوتو)، هذا النوع من التعبير الذي يعود أصله إلى اليابان رقصة عريقة ولا تمارس إلا في بعض الدول الأوروبية والأمريكية.
ويُرتقب تتويج دورة 2023، بإسقاطات تطبيقية وحزمة مخرجات يوم 21 أكتوبر الجاري... ويستمرّ الحلم في رحلة الألف ميل.

تحميل تطبيق الاذاعة الجزائرية
ios