يثور الجدل في الجزائر حول طبيعة الممارسة النقدية المسرحية محلياً، وسط انقسام بشأن مدى تأرجح الوعي النقدي بين الذاتية والموضوعية، ومستويات تمثّله وتجسّده في الممارسة، ولعلّ المتواتر في أدبيات الحركة المسرحية بالجزائر، اقترانها بالحديث عن أزمة نقد، ومن غير شك أنّ لهذا الكلام جذوراً، كما أنّ هناك اختلافاً في ضبط طبيعة الأزمة ذاتها وتحديد مخرجاتها.
في ندوة نشرتها مجلة "المسرح"، جرى التنويه إلى أنّه بالمنظور التاريخي، جلّ الأعمال النقدية في الجزائر اتسمت بأسلوب أكاديمي كلاسيكي، كأعمال "محمد مصايف" و"عبد الله ركيبي"، إلاّ أنّ ما غلُب على كثير من محاولات جيل ما بعد مصايف وركيبي، بقاؤها تنحو في معظم الأحيان منحى نظريًا بدا فيه اطلاع كبير على أحدث النظريات النقدية كالبنيوية مثلاً، غير أنّ الصلة بالتجارب المسرحية بقيت محصورة في التنظير واجترار التنظير.
ورغم ما شهده النقد المسرحي في الجزائر، من تحولات على مدار العقدين الأخيرين، إلاّ أنّه "لا يزال واقعاً تحت نزعة الموضة والمخالفة القشرية"، على غرار ما قاله د. إبراهيم رماني في مقاله الموسوم "زمن النقد"، ومرافعته لاستقراء ذاكرة الموروث والتأسيس، والانتصار لمراجعة كلية تلغي الأطر المسبقة، وتنفي الأحكام الجاهزة، وتواجه المُنجز.
من جانبه، يسجّل المتخصّص في فنون الخشبة، د. يوسف مجكقان أنّ الحركة النقدية في بلاده، مدعوة للانتقال إلى طور جديد، معتبراً أنّ "الإشكال في المسار النقدي على مستوى الساحة الجزائرية، إنما هو إشكال لغة، لكونها عرفت أوضاعاً خاصة لم تعرفها بقية الأقطار العربية الأخرى".
وفي مقاربته لراهنية النقد المسرحي الجزائري، يرصد د. مجكقان حزمة إشكاليات تتراكم، مثل الانسياق وراء التقليد، وعدم استحضار الثقافة المحلية والموروث وحتى الواقع، كما يقحم عنصر "غياب التخصص" البارز في كثير من الكتب النقدية الجزائرية، حيث تجد كتاباً واحداً يحتوي مقالات نقدية في أشكال متعددة: المسرح، القصة، الشعر، الرواية، دون أن يشكّل ذلك حرجاً لصاحبه.
ويتصور محدثنا أنّ المشكلة راجعة إلى طبيعة الممارسة النقدية، إذ يعمد فريق إلى فرض منهج نقدي على عمل لا يتماشى معه، دون فحص أو تمحيص، مستهجناً ما يسميها "الاعتباطية في توظيف المصطلحات ذات المحمولات الفلسفية والفنية، وعدم احتواء المفاهيم ممن يعمدون إلى إفراغ كل ما لديهم من معلومات وما تم الاطلاع عليه من نظريات، دونما مراعاة لمتطلبات الحال".
ويشير د. مجكقان إلى ضعف التواصل والتكامل بين كثير من النقاد، وانعدام الوسائط النقدية الحقيقية، مما سبّب فصاماً في تشخيص سنن التعبير المسرحي وانكساراً في التطور الطبيعي لإحداثيات النسق الثقافي الحداثي والمسرحي، ما أفرز قدراً من العشوائية.
دوّامة الحواجز والتحيّز
في ظلّ الرصيد الزاخر من الأعمال المسرحية، يتساءل محمد زعيتري أستاذ المسرح والآداب العالمية بجامعة المسيلة الجزائرية، عن النقد المطلوب، هل يتعلق بنقد العروض أم نقد النصوص؟ ثمّ ما طبيعة هذا النقد؟ هل نتكلم عن النقد الأكاديمي أم النقد الاجتماعي المفتوح؟
ويقدّر زعيتري أنّ "النقد المسرحي لا يزال يتخبط في دوامة التخصيص ويبحث عن منفذ يحاول من خلاله ولوج عالم المسرح بعيداً عن الأطقم الجاهزة داخل أسوار المجلات العلمية المحكّمة في مقالات تستمد قوتها من التنظير والنمذجة بعيداً عن التطبيق في الميدان".
ويضيف: "قد يضيق الفضاء عن النقد حين يصبح عبارة عن مجرد دراسات أكاديمية تنطوي عليها صفحات مذكرات تخرّج الطلبة ولا تصل الى حدود عالم الممارسة"، وعليه يذهب الأكاديمي المذكور أنّ "النقد المسرحي في الجزائر لا يتناسب طرداً مع الانتاج؛ فلا يزال في كرٍّ و فرٍّ مع الرصيد الموجود ولم ينفتح بشكل صحيح ليسبر أغوار الأعمال المسرحية سواء أكانت نصاً أم عرضاً، وهو الأمر الذي لا يكون إلا بفتح حوار حقيقي في الفضاءات المسرحية، ولا يُصبح مناسباتياً أو مقرّراً إلزامياً داخل الجامعات والمعاهد، بل يتجاوز حواجز المؤسسات ليصل إلى كل ما يصل إليه العمل المسرحي في حد ذاته، وتقام له الندوات والمحاضرات والمساجلات النقدية في كل وسائط الاتصال، ويمس كل جوانب المنتج المسرحي من الكتابة إلى الركح ويناقش كل القضايا المطروحة ولا يستثني نوعاً بعينه".
ويستدلّ زعيتري بمسرح الطفل في الجزائر "الذي يكاد يغيب فيه النقد عدا بعض الآراء البسيطة المشتّتة هنا وهناك، دونما انتباه للخطر المحدق بالطفل من حيث تكوينه المعرفي الذي يعدّ فيه المسرح المدرسة الأم في هذا التحصيل، إضافة إلى السكوت المخيف تجاه نقد العروض التنشيطية، والتي عادةً ما يغلب عليها طابع التهريج، وكأنّها ليست نوعاً مسرحياً وغير معنية بالنقد".
وينتقد زعيتري ظاهرة "التحيّز" لعمل دون آخر، مقدّراً أنّ "هذا ليس نتاج العملية النقدية الصحيحة، بل نتاج ما أصبح سائداً في الساحة من أنواع نقدية تختلف باختلاف الطبقة التي تمارسها، فأصبح هناك النقد الأكاديمي المحصور داخل الفضاءات المغلقة، إلى جانب النقد غير المتخصص الذي غزا صفحات بعض الجرائد ومنصات التواصل الاجتماعي، ويحاول ممتهنوه أن يفرضوا أحكاماً تقتل عملاً وترفع آخر وفق آراء انطباعية تبتعد عن الموضوعية، وهناك نوع ثالث اختص به بعض المطبّلين الباحثين عن الريع من خلال التملق ومسح الجوخ لمآرب خاصة.
وفي ظلّ المتغيرات السالفة، يبقى النقد المسرحي في الجزائر – بحسب زعيتري – "يكابد من أجل فرض الذات ودحض المتطفلين"، متفائلاً بـ "بوادر أمل في بعض النقاد الحاذقين – من الذين لم يجرفهم تيار الذاتية – يبعثون من حين لآخر بعض النور بدراسات نقدية واعدة تستقصي الجوانب الأكاديمية الصارمة في المحافل المسرحية بدايةً من الفكرة وصولاً إلى الإخراج".
الحاجة إلى منصات منتظمة وشجاعة أكبر
يلاحظ د. حبيب بوخليفة أنّ النقد المسرحي في مسار التجربة المسرحية الجزائرية، بقي جزئياً وظرفياً، رغم الدراسات الجامعية التي لم تصل إلى مستوى التأثير في القرارات الابداعية الفنية المسرحية، بفعل تركيزها على أدبية النص وإهمالها الجانب الفيزيولوجي للعرض، أي تحليل أدوات الممارسة البصرية للفعل المسرحي كالإخراج والاضاءة والسينوغرافيا والأساليب والمدارس الفنية والرؤى الجمالية البصرية وفن التمثيل إلى غير ذلك من المكوّنات التقنية للفضاء المسرحي.
وفي مقابل إحالته إلى تخريج المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري في الجزائر، لأسماء مائزة تحطّمت أحلامها على صخور التهميش والبطالة، يلفت بوخليفة إلى أنّ الافتقاد شبه الكلي لمنصات منتظمة للفعل المسرحي، عمّق الأزمة النقدية، بحكم مركزية وسائل الإنتاج والتوزيع والتمثيل، وتقوقع المقاربات النقدية غالباً في نطاقي المدح أو القدح بدل التفتيش عما هو جوهري في مسار التجارب المسرحية المختلفة، لذا ينبغي الخروج بشجاعة من دائرة المدح وولوج مصف النقد.
ويطرح د. يوسف مجكقان، فكرة "الانتقال بالنقد إلى مستوى تطبيقي وذلك عبر التكوين والاتفاقيات والنهل من الخبرات الموجودة في الداخل والخارج، بعيداً عن ذهنية التعاطي مع المسرح بما هو أدبي، والجنوح إلى النقد الانطباعي الاستعجالي الذي يتوقف عند حدود النص".
ولم يستسغ مجكقان "ممارسة البعض للنقد المسرحي مع أنّهم يجهلون مفاهيم أساسية في فنون الخشبة ولا اطلاع لهم على أدوات السينوغرافيا والكوريغرافيا وسائر الحرف المسرحية التي تربو عن الـ 42، ثمّ يقولون بـ (نجاح المخرج) و(ابهار العرض)".
ويؤيد الأستاذ إبراهيم نوّال "البحث عن آليات ومناهج ورؤى فنية جديدة تمكّن النقد المسرحي في الجزائر من مواكبة التغيرات والتطورات الراهنة، طالما أنّ مهمّة الناقد بالدرجة الأولى تكمن في مقاربة أي عمل فني بالتحليل والتمحيص وتحديد مكامن الإبداع والجمال والتجديد فيها، وفق معايير علمية وموضوعية".
نقد مسرحي قوي مشروط بسياسة ثقافية قوية
يعتقد الكاتب محمد زتيلي بـ "انحدار النقد المسرحي في الجزائر إلى البساطة"، ولا يستسغ "زهد خريجي النقد المسرحي عبر الجامعات في الممارسة الميدانية"، متسائلاً عن "حقيقة التكوين النقدي في المعاهد والمسارح، واقتصار الأمر على معهد فنون العرض فحسب".
ويضيف: "ينبغي أن نعترف بوجود شرخ بين الجامعة الجزائرية والمؤسسة المسرحية"، كما رأى أنّ تجاوز ذلك ممكن عبر توفر الإرادات والنوايا، جازمًا أنّه لا مجال لقيام نقد مسرحي قوي ما لم يتم اعتماد سياسة ثقافية قوية يشارك فيها رجال المسرح والإعلام.
وقال زتيلي: "ينقص الجزائر معهد عال للحرف، بحيث يساعد على تكثيف تكوين النقاد والكتّاب والممثلين والسينوغرافيين وغيرهم من كوادر المنظومة المتكاملة على منوال ما يشهده الجيران والأشقاء".
من جانبه، يلحّ الباحث المسرحي مراد لوافي على حتمية عدم عزل ممارسة النقد المسرحي في الجزائر عن سياقاتها، بقوله: "صحيح أنّ المعهد العالي لمهن فنون العرض كوّن المئات من طلبة النقد المسرحي؛ إلا أنّ زهد الصحافة المحلية في أركانها الثقافية ومطالبة المديرين للصحفيين بالاكتفاء بالأخبار وكفى؛ لأنّ الأمر يتعلق بيوميات وليس مجلات متخصصة، جعل الهامش محدوداً، خصوصاً بعد مصادرة فضاءات نقدية ممتازة على منوال مجلة الحلقة وغيرها، وصار بعض العزاء في ملاذات ظرفية على منوال النشريات الصادرة في عموم المهرجانات المحلية".
ويستغرب لوافي "تكوين كوادر النقد ثم حرمانهم من دروب الممارسة، ما يقتضي مراجعة شاملة تسمح بتفعيل القوى المهدورة؛ وتحفز طلائع الجيل الجديد على الاندراج في مسارات النقد".
الوصاية على العروض
يقتنع المخرج محمد شرشال أنّ "التحفة تخرج عن سيطرة المخرج فور عرضها، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال توجيه فهم الآخرين وقراءتهم لها، أو منع أي كان من أن يحمّلها أيديولوجيته أو ينسب لها قناعاته ووجهات نظره، فالتحفة الفنية تصبح ملك المتلقي فور عرضها، ومستويات القراءة مختلفة باختلاف الناس، لذا كل يرى العرض من منطلقه، واستناداً إلى رصيده الثقافي والإيديولوجي، والجميع يرغبون بطريقة أو بأخرى في أن ينتسب العرض لخياراتهم.
ولا يهضم شرشال قيام "بعض ممن يُحسبون على النقد (صحفيون تحوّلوا إلى النقد دون التمكن من أدوات النقدوالخطاب المسرحي) بممارسة نوع من الوصاية على العروض، حيث يعمدون إلى فرض أبويتهم على التحفة الفنية ويقومون بوضعها في قوالب وتصنيفات ونظريات جاهزة ومستهلكة، بل يصل الأمر بهم إلى تفسير العرض بحسب أهوائهم مخالفين الكاتب والمخرج وفريقه، وقد يصلون إلى درجة الإملاءات على شاكلة (على المخرج أن يفعل كذا بدل كذا)، وبدل أن يشرح هؤلاء العرض، ويفككونه ويستكشفون دلالاته، يستعملونه لاستعراض عضلاتهم المعرفية والتي تلقوها من محرك البحث جوجل، ويشرعون في تصنيف العرض في مدرسة كذا ومنهاج كذا، ليُصبحوا هم الموضوع وليس المسرحية".
جمالية الاستكشاف ... وفن الاقتصاد
يشدّد شرشال على أنّ "النقد مدعو لاستكشاف التحفة الفنية قبل كل شيء، لا أن يصنفها في عنوان وانتهى الأمر، فالناقد يجب أن يكون تلميذ التحفة الفنية لا أستاذاً عليها كما قال يوجين يونسكو أحد رواد مسرح العبث، ورغم هذا يجب الإشارة إلى وجود الكثير من النقاد في الجزائر ممن تخرجوا من معهد فنون العرض ومختلف الجامعات الجزائرية، يتحلون بالموضوعية ويبتعدون عن الأحكام الذاتية، وهؤلاء هم من يحتاجهم المسرح الجزائري لتكتمل الحلقة الإبداعية عرضاً، جمهوراً ونقاد".
وينوّه شرشال إلى أنّ "كل التجارب المسرحية التي نجحت، هي التجارب التي تمرّدت وثارت ضد المناهج والأساليب المنتهجة، وليس مطلوباً من المبدع أن يلتزم بقانون أو مدرسة، لكن على المبدع أن يكون مُلّماً بكل المناهج والمدارس التي وُجدت عبر تاريخ المسرح لأكثر من 3 آلاف عام".
ويؤكد شرشال أنّ "المسرح فن الاقتصاد، الاقتصاد في الكلمة، الاقتصاد في الحركة، الاقتصاد في كل أدوات الخطاب المسرحي، الذكاء والجمال هو أن تكتفي بما يلبي غرضك بدون زيادة، وهنا يكمن سرّ المسرح الذي يمكن أن يختزل العالم في كلمة، في حركة وفي سكون أيضاً، وهذه التعاليم لا بدّ من توفرها لدى النقاد".
رابـــح هوادف – ملتيميديا الإذاعة الجزائرية