يروي الفنان المخضرم الهادي شريفة (80 عاماً)، فصولاً هامة من قصته الموغلة مع فن الكوريغرافيا العميق المستوعب لفنون الأداء الحركي الراقص، وأيقونات التعبير في توصيل الأفكار والأحاسيس والحالات والقيم.
في حديث نشرته مجلة "المسرح"، يستحضر الكوريغراف والمدير الفني وأستاذ الرقص بأنواعه الكلاسيكي والعصري والتقليدي والتعبير الجسدي، محطات بارزة تخصّ مسارات الكوريغرافيا بالجزائر وأوروبا منذ ستينيات القرن الماضي.
- حدّثنا عن بداياتك في فن الكوريغرافيا؟
- بدأت هاوياً في مراكز الشباب عام 1960، لم أكن أتجاوز السادسة عشرة من العمر، وشاركت في أعمال حضر فيها المسرح والموسيقى والكورال والرقص التقليدي، حيث كنا نرتجل "سكاتشات" في السهرات، ونؤدي رقصات تراثية جزائرية مثل الرقص الأوراسي والقبائلي والصحراوي والطارقي.
غداة استقلال الجزائر في الخامس جويلية 1962، التحقت بالفدرالية الجزائرية لمراكز الشباب التي شكّلت منطلقاً للعديد من الفنانين الجزائريين البارزين على غرار عبد القادر شاعو.
- ماذا عن تأسيس أول باليه في تاريخ الجزائر؟
- باليه "المنار" هو أول باليه في الجزائر، أسّسه عمر صاحبي، وكان ذاك الباليه تابعاً للمسرح الوطني الجزائري، وتحت وصاية وزارة السياحة، وحُظي بتمويل مباشر من "تعاونية تسيير الفنادق والمطاعم"، وكان الباليه يتخذّ من ثكنة فرنسية قديمة مقراً له.
وشكّل باليه المنار، النواة الأولى للتلفزيون الجزائري، حيث قدّم كوكبة من كبار الفنانين الكوريغرافيين أمثال: ابراهيم بهلول، نذير روماني، نادية قوبار، الحاجة شميني وماريا بريران.
وانتقلت وصاية باليه المنار من وزارة السياحة إلى المسرح الوطني الجزائري، وكل شيء كان يسير بشكل جيد، قبل أن يتمّ تحطيم هذا الباليه الذي كان يقدّم 36 عرضاً كل 45 يوماً بمعدّل أربعة عروض كل أسبوع.
وكان المؤلف الموسيقي الجيلالي حداد قائد الجوق، عمل مع الإذاعة والتلفزيون الجزائريين، وبرع فنياً وسيكولوجياً، إذ أجاد تسيير نحو سبعين عضواً، وكان يؤلّف لكبار مطربي تلك المرحلة، على غرار آكلي يحياتن وعبد الحميد عبابسة ورابحة الغالية وأحمد خليفي.
ونجح باليه المنار في استقطاب الممثلة دوجة عشعاشي التي كانت راقصة، كما أقنعنا كوكبة من الفتيات بالانضمام، على نحو ساعدنا في تجاوز مشكلة نقص العنصر النسائي، ورفقة الراقصين محمد وجدي وجيدة تمشطوط، كان هناك تعدّد وتكامل للموسيقى والرقص والغناء، قبل أن يتمّ حلّ باليه المنار.
- شرع "المعهد الوطني للفنون الدرامية" ببرج الكيفان في تكوين أوائل الراقصين بدءاً من العام 1965، وتزامن ذلك مع تشكيل باليه المعهد، حدّثنا عن تلك المرحلة...
- تشكّل باليه المعهد تمّ مع أول دفعة ما بين عامي 1965 و1969، حيث جرى المزج بين باليه المنار وباليه المعهد، وأنوّه إلى أننا كنا نعرف جيداً الرقص التقليدي، وتحت إشراف البلغاري غريغوري أبراتشاف ومساعده رياسكوبار، كنت مسجّلاً في المعهد البلدي المركزي (الكونسرفاتوار) بحي القصبة وسط العاصمة منذ عام 1963.
وتحت إشراف النجمة إيدويغ أودوي المنحدرة من جذور فرنسية، تابعت تكويناً استمرّ لخمس سنوات، وكان ذلك يتمّ بشكل متزامن، حيث كنت آخذ دروساً في المعهد وفي الكونسرفاتوار.
والحاصل أنّنا لم نكن متفقين مع البلغاري أبراتشاف بشأن منهجه في أداء الرقصات التقليدية، حيث رأينا حينذاك أنّه كان يُسبغ الكثير من الأكاديمية ويسلب الرقصات الجزائرية نكهتها المحلية، ما جعلنا نجد أنفسنا كآلات، قبل أن يحدث التحوّل الحاسم.
- هذا التحوّل تمّ بانضمامكم إلى أكاديمية البولشوي في موسكو، أكبر مدرسة للرقص في العالم، كيف جرت الأمور؟
- حدث ذلك بحر عام 1967، وكان عمري وقتذاك لا يتجاوز الرابعة والعشرين، وأتذكّر أني التقيت حمداني المدير بالنيابة المكلف بالتكوين في وزارة التربية الجزائرية، وأبلغته رغبتي في متابعة دراسات عليا خارج البلاد.
وحصل التجاوب عبر منحة دراسية، والتحقت بأكاديمية البولشوي رفقة الفنانين الصاعدين فروجة لعلام (18 عاماً) وفاطمة الزهراء ناموس (16 عاماً) وشريف زهار.
في البولشوي ومعناه "الكبير"، وهو الأكبر في موسكو، درسنا تقنية العمل مع الشريك، والتقنية تبدأ في الغالب عند السنة الخامسة من التكوين وتستمرّ إلى غاية السنة الثامنة، وفي كل موسم دراسي كان يتعاظم مستوى التكوين.
وجرى تلقين الرقص على أطراف القدمين للفتيات، ولإتقان ذلك كان الأمر يقتضي جلب أطنان من الجوارب والأحذية المتخصصة للتمكّن من ذلك، مع كل ما تنطوي عليه المسألة من مخاطر.
أتذكّر بحنين ما استجمعته من مكتسبات تطبيقية، وما قدمته آنا ميخاليوفينا لينينا أستاذتي لأربع سنوات، التي علمتني نظرية الرقص الكلاسيكي، وكانت نجمة في البولشوي جمعت بين الثقافتين الفرنكوفونية والأنجلوفونية، وفضلاً عن ميخاليوفنا لينينا، أستحضر كيرا سرغايفنا أستاذتي في رقص الطبوع ونجمة الرقص في البولشوي.
وبالعودة إلى لينينا كانت تجيد ثلاث لغات، لذلك كانت مخصّصة لتأطير الطلبة الأجانب، وفضلاً عن الجزائريين، كان معنا عشرة من جنسيات مختلفة، مثل الهندية فيروزا لالي وهي طالبة ممتازة من مومباي، لكنها لم تتأقلم مع المناخ الروسي (درجة حرارة تحت 35 درجة)، فسقطت في أحد التمارين وتعرّضت إلى رضوض في الرأس.
وإلى جانب فيروزا، تكوّنت معنا "سانتيا" الشيلية و"ليندا" الانجليزية، إضافة إلى المصرية "ليلى أمين"، لكنها لم تواصل فجرى توجيهها إلى إدارة البيداغوجيا بمدرسة باليه القاهرة.
أحبّ أن أعود إلى البولشوي الذي ظلّ يستوعب ما لا يقلّ عن مئتي راقص، بينما تستقطب الأوركسترا السيمفونية، ثمانون إلى مئة وعشرين عازفاً، والأوبرا كانت تتطلب ما يربو عن المئتي مؤدٍ، ما معناه ستمائة عضو كانوا ينتجون عملين إلى ثلاثة كل عام وفق سياسة ديناميكية تتكفل على أعلى مستوى بفناني البولشوي.
وأسجّل أنّ باليه رقصة البجع لتشايكوفسكي، كان يقتضي مشاركة 60 إلى 70 راقصاً مرفوقين بموسيقيين ومغنين، يتدربون كل يوم ساعة ونصف إجبارياً، مع المواظبة على التدريب لأنّ بنية الراقص تتضرّر في حال الانقطاع.
ولأنّ خشبة البولشوي ظلّت مقدّسة وتمثّل قمة الكوريغرافيا في روسيا والعالم، اضطرّ فريق غير قليل من الروس للالتحاق بباليه باريس على سبيل المثال لا الحصر، وشخصياً واكبت ريبرتوار البولشوي، حيث كنت أذهب كل ليلة إلى البولشوي وملحقته في الكرملين التي تتسع لأربعة آلاف مقعد وتشهد عروض الجيش الأحمر.
كنت مولعاً بالرقص البولندي على إيقاع تشايكوفسكي، وكنا نسميه رقص الطبوع، دون أن أخفي تعلقي بالرقص الكلاسيكي الذي أبدع فيه الايطاليون والفرنسيون قبل انتقاله إلى روسيا وتطوّره هناك.
- ما الذي استفدته من مرورك بأكاديمية البولشوي؟
- لم أكتف بالتعلّم فقط خلال فترة الأربع سنوات بأكاديمية البولشوي، حيث تخصّصت في تكوين الأطفال بين التاسعة والثانية عشرة، من الذين كانوا يتابعون تكوينات تتراوح مدتها بين الست والثماني سنوات، ثم يتم اختيار راقصين منهم في قلعة البولشوي، علماً أنّ خمسمئة طفل كل عام كانوا يأتون من مختلف ربوع الاتحاد السوفياتي السابق.
وأشير إلى أنّ مسرح ستانيسلافسكي كان مُجاوراً للبولشوي، حيث كان لا يفصل بينهما سوى 50 متراً، ومسرح ستانيسلافسكي كان يشهد منافسة كبيرة بين مرتاديه، لذا كان يجري توجيه الكثير من العناصر إلى فضاءات الرقص في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
وفي المعهد الوطني للفن المسرحي بموسكو، المسمى اختصاراً (الغيتوس)، وهو معهد مصغّر للأوبرا والباليه ومختلف فنون المسرح، أنجزت تربصاً في الكوريغرافيا على مدار الستة أشهر الأخيرة من فترة تكويني.
في أكاديمية الكوريغرافيا للبولشوي بموسكو (ماخو)، كان أساتذة نظرية وتطبيقات الرقص، يحرصون على الحضور وفاعلية الحركة والتقنية الحية، من الإحماء إلى التموقع في الوسط، وصولاً إلى القفزات، كما كان الأساتذة يسمحون لنا بالتصحيح للأطفال، وتلقينهم جماليات اللغة الصامتة، في وقت شهد معهد (الغيتوس)، تكوين دفعات من الممثلين والراقصين، قبل تحولّهم إلى العمل كبيداغوجيين لاحقاً.
- بعد عودتك إلى الجزائر مطلع سبعينيات القرن الماضي، قُمت بتأطير كوكبة من الأسماء التي أسهمت في دفع منظومة الكوريغرافيا الجزائرية... ما المنهج الذي اعتمدتموه؟
- غداة استكمال مسارنا في البولشوي عام 1971، جلبنا عدّة معاونين روس إلى الجزائر، حيث أمضينا عقداً تمّ بموجبه استقدام أساتذة روس للرقص بنوعيه الكلاسيكي والتاريخي، ورقص الطبوع بين عامي 1971 و1985، في صورة ناديا تيكرانوفا التي أتت من مسرح سانت بطرسبورغ وتخصّصت في الرقص الكلاسيكي، إضافة إلى إيفان باخروفسكي أستاذ رقص الطبوع.
وكان اللفيف الروسي مرفوقاً بثلاثة عازفين على البيانو، إضافة إلى الجزائريين العائدين فروجة ناموس والهادي شريفة، واقتنعنا منذ البدء أنّ من لم يعمل في الفضاء الركحي هو نصف أستاذ، فكانت خبرة الخشبة هي التي تلهمنا.
لم نكن نكتفي بتسجيلات الطلبة آلياً، حيث كنا ننقّب عن المواهب، ضمن هذا السياق، اكتشفت العيد جلول وجلبته من معهد وهران البلدي، وألحقته بالمعهد الوطني في الجزائر العاصمة.
اعتمدنا في البداية على 120 طفلاً من الجنسين تراوحت أعمارهم بين 10 و12 سنة، وكان البرنامج يتغير بحسب الفئات، وللأسف كنا ولا نزال نفتقد لثقافة "الريبرتوار"، ما حال دون ترك الكثير من الأعمال حية.
وبعد ذهاب الأستاذين أبراتشاف وغياسكوفا عام 1971، خطّطنا لاستحداث أول باليه كلاسيكي، وبعد مشاركتنا في المهرجان العالمي للشباب والطلبة ببرلين عام 1973، أردنا استحداث فرقة ننتقل بها إلى الإبداع الحقيقي مع راقصين محترفين، فبعدما شاهدت عدّة دول، لمسات أبراتشاف، جُبنا العالم ببصمات مغايرة.
ومع قدوم رميلي سميدة مديراً للمعهد سنة 1975، حرصنا على إخراج المعهد من جدرانه والذهاب بأعماله إلى عموم الولايات، فضلاً عن المشاركة في مختلف التظاهرات الثقافية مثل مهرجان تيمقاد، وكان ذلك بارزاً مع الكاتب والممثل والمخرج المصري سعد أردش الذي درّس في المعهد، وظلّ يوظّف الرقصات في مسرحه.
- نودّ معرفة رؤية العميد مصطفى كاتب لإنشاء الباليه الوطني الجزائري؟
- الفنان الراحل مصطفى كاتب خطّط المدير السابق للمسرح الوطني الجزائري، وصاحب فكرة استحداث المعهد الوطني للفنون المسرحية، لتشكيل الباليه الوطني الجزائري بالخزّان النوعي الذي تمنحه سبعة دفعات.
وسار الأمر كذلك، فجرى تخريج دفعات متتابعة ضمّت نور الدين قدور ونوّارة إيدامي وإسماعيل دحماني وغيرهم من الفنانين الذين درسوا ثماني سنوات، واستكملوا تعليمهم في موسكو.
من جهتهم، كوّن طلبة المعهد فرقة الباليه الوطني للرقص المعاصر والتقليدي عام 1979، وهو باليه استمر ثلاث إلى أربع سنوات، وحُظي بإشراف جمال شكشاك أستاذ الأوبرا، وآسيا بلهادي مساعدة فاطمة الزهراء ناموس.وتدعّم الباليه أكثر بتخرّج الدفعة الثانية التي تألقت بأسماء كمال بوسنينة، عبد الكريم بن باحي، عبد الحميد عقابي، حسان حاج شايب، وردية حاج شايب، سهيلة برفان ومريم نجاي.
- تحتفظ ذاكرة الكوريغرافيا في الجزائر بأعمال عديدة أبدعتموها، يهمنا التعرّف على حيثياتها...
- كنت راقصاً ومساعداً للثنائي الأذربيجاني "رفيقة" و"ماخسوف" ماميدوف في تجربة "3 ثورات" لأوبرا باليه "باكو"، والعمل أنتجه المسرح الوطني الجزائري، وبعد رحيل "رفيقة" و"ماخسوف ماميدوف"، واصلت أنا التجوّل بالعمل في سنتي 1973 و1974 عبر عدّة مدن جزائرية ومغربية.
لكن العمل الذي أعتبره الأول في مساري، هو "اللهيب" (1975)، وكنت حاضراً فيه بصفتي الكوريغراف والأستاذ،كما أنجزت العرضين الافتتاحي والختامي لألعاب البحر الأبيض المتوسط التي احتضنتها الجزائر في سبتمبر 1975.
وبعد جولة محلية مزمنة، شاركت باللهيب (50 دقيقة) في المهرجان العالمي للشباب والطلبة بكوبا (1979)، وكانت مغامرة حقيقية، حيث سافرت مع طلبة المعهد في وفد قوامه 250 شخصاً على متن باخرة الأميرال ناكينوف، ودامت الرحلة 17 يوماً، وكنا نتدرب يومياً ووصلنا إلى هافانا قبل 24 ساعة عن بدء المسابقة، وجرى تقديم العروض المتنافسة في فضاءات متعدّدة، وعشنا في عالم عملي بديع لا يوجد حالياً.
وكانت لي تجربة "الحلم الأزرق" مع الملحّن صافي بوتلة، في أول تجربة كوريغرافية مع الباليه، فيما عايشت تجارب مميّزة مثل "حورية" (1979) وشهرزاد (باليه من فصل واحد) لفاطمة الزهراء سنوسي ناموس (1981)، وهو عرض مأخوذ عن نص أوركسترالي للملحّن الروسي الشهير "نيكولاي ريمسكي كورساكوف" المتخصّص في الشرقيات.
- بعد 12 عاماً من اشتغالك في التكوين بالمعهد، وإدارتك لباليه الرقص الشعبي والمعاصر للمسرح الوطني الجزائري، غادرت فجأة، كيف حصل ذلك، وماذا كان المتنفس؟
- غادرت عام 1979 بعد مشاركتي مع الباليه الصغير للمعهد (ضمّ 30 راقصاً)، وتحوّل إلى الباليه الثاني للمسرح الوطني، من بين أعضائه: رشيدة لعلام – سميرة حمودي – دليلة حمودي–آسيا بلهادي ونادية دراديلا، وجميعهم درسوا عندي الرقص الكلاسيكي أربع سنوات في المعهد البلدي.
وأنوّه إلى أنّ أعضاء الباليه الصغير تلقوا تكويناً أكاديمياً معمّقاً في الرقص الكلاسيكي المعاصر والتقليدي، وتخرّجوا عام 1979، أي عشر سنوات عقب تخرّج الدفعة الأولى، والحاصل أنّه بفعل بعض الحساسيات، جرى دمج عناصر الباليه الأول والثاني، وتمّ تنحيتي قبل الدمج، حيث كنت ضحية شكاوى كيدية.
في مرحلة ما بعد الدمج والإقالة، قمت باستحداث فرقة الرقص التي منحتها اسمي "فرقة الهادي شريفة"، مثل فرقتي موريس بيجار وإلفين هالي، وشكّلت فرقتي من مجموع تلاميذي، وقدّمت ثلاثية: "الوجود والدوام"، "أكون أو لا أكون"و"أكون وأستمر"، عبّرت فيها عن ماهية وجودي في عالم الرقص، وشاركني في إنجازها، الفنانان ليليان الهاشمي ونور الدين عبة، وبمعية 15 راقصاً، عرضت الثلاثية في الجزائر ومهرجان قرطاج.
ولأنّ الأعضاء كانوا تلاميذ في الثانوية وطلبة في الجامعة، كنا نستغل مواسم العطل، كما ركّزت على الباليه القائم على الرقص والتمثيل والمعايشة، والمعبّق بروح المرح، على منوال نمط "جاكسون" و"بنجامين بريتان"..
- أدرت تربصات كثيرة في أوروبا بين عامي 1996 و2012، كيف سارت العملية؟
- بعد توليفة فرقة الهادي شريفة التي استمرت 18 شهراً، فضّلت التركيز على نقل تجاربي وتسويق التراث الجزائري والمغاربي إلى القارة العجوز، فطرحت فكرة إدارة التربصات التي ركّزت فيها على الرقص التقليدي المغاربي في فرنسا وايطاليا مع مدارس ميلانو ونابولي وبولونيا وبيزا وميتز وليون، وصولاً إلى اليونان بمعدّل ثلاث وأربع تربصات دورياً عبر دُور الثقافة.
وسعيت لتحفيز المتدربين والمتلقين على استكشاف الرقصات الجزائرية في مناطق القبائل والأوراس وبوسعادة وجانت والطاسيلي، وكانت تتراوح هذه الرحلات الماتعة بين اثنتين وثلاثة كل سنة، وتمتدّ أحياناً لثلاث سنوات، قبل أن يتوقف كل شيء مع بدء دوامة اختطاف مجموعات الإرهاب، للسياح الأجانب في صحراء الجزائر.
- تعاملت مع الأطفال في الجزائر وفرنسا، كيف كانت تجربتك في رحاب البراعم؟
- علاقتي مع الأطفال بدأت بتصميم عرض "دائرة الطيور" (1985) عن نص نور الدين عبة، وترجمة عبد الله بوزيدة، مع حضور خاص للمصممة السينوغرافية الراحلة ليليان الهاشمي في تصميم الملابس.
وكان العمل تطوعياً تبنته مليكة جعفر مديرة المدرسة الابتدائية مليكة خرشي بالقبة، وجاب العمل المازج بين الرقص والتمثيل، منطقتي البويرة وبجاية.
وفي عام 1989، شكّلت فرقة جديدة بمنطقة بورج الفرنسية، واستهدفت أبناء الحركى الذين جرى الزج بهم في محتشدات وعانوا من العنف والتفكّك في فرنسا.
وأردت من تأسيس الفرقة، مساعدة هؤلاء الأطفال على الاندماج وتمكينهم من استكشاف جذورهم وبناء أنفسهم للذهاب بعيداً، فكانت فكرة تصميم باليه يسافر عبر دروب الزمن بمشاركة أولاد الحركى، وعدد من الفرنسيين والبرتغاليين على إيقاع الغناء والرقص المغاربي.
وجاب العرض أنحاء فرنسا، إضافة إلى منطقتي بجاية وسطيف بالجزائر، وأشير إلى أنّ اشتراكيي فرنسا دعّموا العرض، على نقيض اليمين المتطرف.
- بدايةً من تسعينيات القرن الماضي، انخرطت أكثر في الأعمال المسرحية، وبخاصة المونودرامات، كيف تمّ التحوّل؟
- بالفعل، لم أتوقف، فبعد تقديمي"رجال الفضاء"، و"الوجود أو العدم" (باليه مسرحي من فصلين)، كان التحوّل رائعاً بمشاركتي في تصميم التعبير الجسدي لمونودرام فاطمة (1991) للممثلة الراحلة سكينة مكيو المكنّاة "صونيا"، حيث كوّنت صونيا لشهرين.
وأسهمت في المونودرام التعبيري "يوميات امرأة أرق" مع "صونيا" أيضاً، عن نص رشيد بوجدرة (1992)، وهذا العمل عُرض على مدار ثلاثة أشهر وبشكل يومي، وعُرض أيضاًبمدينتي ميلانو وليون.
وكان لي حضور في مسرحية "حافلة تسير 2" (1992) للممثلين الراحلين عز الدين مجوبي وصونيا، حيث شاركت في التعبير الجسدي مع مجوبي وصونيا وآكلي أوراد وشعبان مراد على نحو ساعدفي عملية الإخراج.
وتوالت مشاركاتي في مونودرام "باية" مع دليلة حليلو، عن نص عزيز شواقي وترجمة الراحل امحمد بن قطاف، ثمّ مونودرام "البسمة المجروحة" مع فضيلة عسوس عن نص عمر فطموش.
ومع معهد العالم العربي بباريس، قدّمت عرض "القافلة" الذي تضمّن عدة لوحات حول الرقصات التقليدية المغاربية بالجزائر وتونس والمغرب، ووسط حضور بهي لملابس قبائل الطوارق.
- ما قصة الباليه المُحصّن التي استوحيتم فكرته عن الشاعر التونسي ناصر خمير؟
- أتى ذلك بعد اطلاعي على تشكيلة من قصائد خمير، فلمعت في ذهني فكرة كتبتها فاطمة سوتو، وجرى إنجاز "الباليه المُحصّن" بمشاركة 30 راقصاً، موسيقى وحيد عماري، ديكور وملابس ليليان الهاشمي، وعُرض العمل في الجزائر وفرنسا.
وحفّزني "الباليه المحصّن" على الإبداع أكثر، فصمّمت عرض الباليه مسرح "المتهم ... إعلان عن بحث"، نص محمد بن عياط، سينوغرافيا زروقي بوخاري الذي صمّم ديكوراً متحركاً وموسيقى موسى بلقاسمي، وشهدت التجربة مشاركة نجلي منير الذي كان في الـ 11 من عمره، وأتذكّر أنّه لدى تقديمنا التجربة في منطقة بورج الفرنسية التي يتواجد فيها الكثير من الحركى، غيّرنا اسم العرض إل "في نجدة السيد فان غوخ".
وعملت في "جولة الرقص" بين عامي 1995 و1999، على تقديم عدة طبوع مغاربية تقليدية وعصرية، وفي تجربة "موزاييك" (2008) احتفيت بالفنان الجزائري الراحل "إيدير" بمناسبة إطلاق ألبومه "صيادو الأضواء"، بعدما صمّمت كوريغرافيا خمسة من عروضه، ثمّ كان لي موعد مع تجربة "المغرب والمشرق" في عامي 2009 و2010.
وفي العقد الثاني من الألفية الثالثة، شكّلت فرقة "ترانسدانس" من مختلف مكوّنات المجتمع الفرنسي، وانتصرت فيها لحركية الجسد وعدم تحجيمه بالإفراط في الملابس.
وركّزت فيها على تقديم باكورة عروض للرقصات المشرقية والمغاربية المعاصرةمثل العاصمي والقبائلي والزندالي والتقليدي المعصرن ، عبر توظيف موسيقى ايدير، ومعزوفات حسين المصري، وما تركه سيمون طمار في سماء موسيقى المالوف المغاربية، مع حضور للمطربتين الجزائريتين نعيمة عبابسة وحورية عايشي.
واستحدثنا موسماً فنياً وسمناه "احكي رقصتك" حضرت فيه موسيقى المصري فريد الأطرش، وتوزيعات الجزائري محند بوشافع والمغربيان حميد زهير وسعيد شرابي في "باليه الزليج" كتكملة لرقصات المشرق والمغرب، كوريغرافيا واخراج الهادي شريفة، وبعد ورشات وأعمال عديدة كان آخر عمل لي "صوت الرمال" (جوان 2023) إخراج عمر فطموش.
- كيف تنظرون إلى ما تشهده الكوريغرافيا بالجزائر؟
- نحن بحاجة إلى سياسة حقيقية تجسّد ما يتمّ الالتزام به، وهذا يتطلب عشرين سنة من السياسة المستمرة، خصوصاً وأنّ التكوين يتطلب عشر سنوات لتكوين الراقصين، شريطة توفر الامكانيات واستمرار السياسات.
في الجزائر حصل انحراف عما جرى تسطيره منذ خمسة عقود في ميدان الرقص، وشخصياً بإمكاني صناعة باليه في ستة أشهر وبتكوين عالٍ على منوال ما طبقناه قبل عقود، والأهمّ يكمن في الايمان باكتساب القيمة المطلوبة، والحرص على امتلاك اللياقة البدنية لتحقيق أي انبعاث.
رابـــح هوادف – ملتيميديا الإذاعة الجزائرية