اختارت الدول الغربية سلاح الضغط الاقتصادي لثني موسكو عن هجوماتها العسكرية التي شنتها ضد أوكرانيا, في الوقت الذي يصعب فيه التكهن بمدى انعكاس مثل هذه الاجراءات على الموقف الروسي نظرا لتداخل عدة عوامل بالسوق, من أهمها درجة تبعية كل دولة للصادرات الروسية, لاسيما الطاقوية.
و يرى ملاحظون, أنه على الرغم من تقارب العقوبات الجديدة في الحدة وأثرها على الاقتصاد الروسي, إلا أن قدرتها على دفع موسكو لتغيير سياستها في التعامل مع الملف الأوكراني, ليست محل إجماع, في ظل تكتل معسكرين, يخص الأول واشنطن ولندن, ويعد بحرب اقتصادية حقيقية, فيما يتعلق الثاني بالاتحاد الاوروبي الذي يكتفي بعقوبات حازمة ومتدرجة.
وتضمنت العقوبات الامريكية حتى الآن 8 إجراءات عقابية, راوحت بين ضغوط على نظام موسكو المصرفي, وقيود على التصدير إلى روسيا وحرمانها من أكثر من نصف وارداتها من المنتجات التكنولوجية المتطورة.
و تبنى الاتحاد الأوروبي, من جهته, حزمة عقوبات تستهدف 70 بالمائة من السوق المصرفي الروسي والشركات الحكومية الرئيسية, فضلا عن قطاع الطاقة, وعقوبات أخرى ضد عدد من المسؤولين الروس رفيعي المستوى.
وتعتمد حدة العقوبات الموجهة من طرف دول الاتحاد الاوروبي ضد روسيا على مدى استفادتها من التموين بالغاز الروسي, ما يجعل قدرتهم في الضغط على روسيا أقل.
و كان المستشار الألماني أولاف شولتس, قد أعلن عن وقف اعتماد خط أنابيب الغاز الروسي-الألماني/نورد ستريم 2, علما أن برلين تعتمد على الغاز الروسي بنسبة تفوق 50 بالمائة من اجمالي وارداتها.
بالمقابل لا تعتمد لندن, مثلا, على الواردات الروسية بقدر كبير, ما يجعلها اكثر قدرة على الضغط.
من جهتها, أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنها تخلت رسميا عن مفاوضات انضمام روسيا إليها.
وتأتي الأزمة الأوكرانية -الروسية في ظل سياق دولي يتسم بارتفاع نسبة التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا إلى أعلى مستوى له منذ عقود, اضافة الى نقص حاد في النفط والغاز وبعض السلع الفلاحية والمعادن في الأسواق الدولية.
يضاف إلى ذلك القدرة الهائلة للاقتصاد الروسي من منظور مداخيلها من النفط والغاز, ما يجعل أي عقوبات على هذا القطاع تنعكس مباشرة على الاقتصاد العالمي وتؤثر على أسعار وإمدادات النفط, خاصة وأن موسكو اليوم عضو في اتفاق أوبك+ (أوبك و حلفاؤها).
كما يمكن لهذا الوضع التأثير على أسعار وإمدادات المعادن والمواد الخام الصناعية التي تدخل في الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة, مثل البلاتينيوم والبلاديوم والنيكل, إضافة إلى وزنها المؤثر في أسعار وإمدادات الحبوب عبر استحواذها على 9 بالمئة من إنتاج القمح العالمي وإطلالها على أهم موانئ شحن الحبوب, وامتلاكها احتياطيا كافيا من الذهب والعملات الصعبة يقترب من 650 مليار دولار.
الاقصاء من نظام "سويفت": سلاح مالي محتمل ضد روسيا
وتراهن دول أوروبا على مجموعة من العقوبات التقنية في إطار ما بات يعرف ب " الأسلحة الاقتصادية النووية", وهي التقنيات التي تساهم في تحويل المواد الخام الروسية إلى منتجات نهائية تباع في الاسواق الدولية.
كما تستهدف هذه الدول, باستثناء ألمانيا التي لازالت مترددة بهذا الخصوص, استبعاد روسيا من نظام سويفت (SWIFT) وهي جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك التي تضم أكثر من 209 دولة و11 ألف مؤسسة مالية ومصرفية, لعزلها عن الاقتصاد العالمي, ما يمنع الشركات والمؤسسات المالية الروسية من القيام بأي معاملات مالية على الصعيد الدولي,على غرار ما حدث مع إيران عام 2012.
لكن مثل هذا الاجراء قد يؤثر بشكل كبير على الدول المرتبطة بمبادلات مالية ضخمة مع روسيا مثل ألمانيا.
ومن بين هذه الأسلحة الاقتصادية أيضا حظر بيع وتصدير التكنولوجيا الأمريكية والغربية بشكل عام إلى روسيا, خاصة في صناعات النفط والغاز وهي تقنيات قد تساعد روسيا على خفض تكلفة التنقيب ورفع مكاسب التصدير.
كما قد تذهب بريطانيا ضمن هذه الأسلحة, في اتجاه استخدام نفوذها بأسواق الدين مع احتياج موسكو للوصول للحي المالي في لندن, الذي يعتبر المركز المالي الأكبر في العالم لجمع التمويلات لشركاتها, خاصة أن العاصمة البريطانية هي الوجهة المفضلة لرؤوس الأموال الروسية وللأغنياء الروس.
وترجح الولايات المتحدة وضع المؤسسات البنكية الروسية الكبرى على القائمة السوداء, وهو ما يجعل من المستحيل التعامل معها في أي رقعة في العالم, باستثناء دول قليلة, وهذه الخطوة أيضا سيكون لها تأثير على الداخل الروسي.
وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون قد كشف أن بلاده قد تذهب - رفقة الولايات المتحدة - لأبعد بكثير في فرض العقوبات, خاصة عن طريق منع روسيا من الحصول على الدولار أو الجنيه الإسترليني.
و من شأن منع روسيا من الوصول للدولار أن يفرض عليها حصارا اقتصاديا خانقا , و يجعل من الصعب عليها بيع نفطها وغازها لدول العالم, لأن العملة المعتمدة في مبادلات الطاقة هي الدولار.
و قال داليب سينج, المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض, "عقوباتنا ليست مصممة لإحداث أي تعطيل للتدفق الحالي للطاقة من روسيا إلى العالم".
لكن يرجح ملاحظون أن سوق الطاقة العالمي سيشهد, في حال تطبيق هذه العقوبات, صدمة غير مسبوقة بفعل عدم توفر العرض الروسي من الغاز والنفط, في الوقت الذي يؤكد فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا تظل جزءًا من الاقتصاد العالمي و لا تنوي الاضرار به.
و صرح بوتين الخميس الماضي "لا ننوي إلحاق الضرر بالنظام الاقتصادي العالمي الذي ننتمي إليه", داعيا شركاء روسيا الغربيين لكي"يتفهموا وألا يضعوا لأنفسهم مهمة إخراجنا من هذا النظام".