قدّم مسرح بسكرة الجهوي، تجربة "إيشو" (75 دقيقة) في قالب غنائي تمثيلي جرى تأثيثه بجرعات فانتازية طرحت ستة ظلال تشي بمنح هذا العمل (الجنيني) عمراً ثانياً، إذا ما جرى الانتصار إلى أقواس مغايرة.
في أولى عروض المسابقة الرسمية لمهرجان الجزائر الـ 16 للمسرح المحترف على خشبة "محي الدين بشتارزي"، كان الموعد مع قصة تراثية مستلهمة من تجليات منطقة توات، عنوانها حب مسلوب بطلاه "جعفر" و"حسنى" سليب وسط فيافي الصحراء الجزائرية، بالاتكاء على حكايةمن التراث الشعبي القديم في منطقة توات التي شهدت تراكمات وموجات نزوح منذ قرون، برزت عبر قوافل قبائل "صنهاجة" و"زناتة" و"جدالة" و"فلمتونة" و"فنسوفة" و"فوتريكة" و"فترقا" و"فزعارة" و"لمطة"و"الحدادة" و"العمامدة" وغيرها من أطياف الأمازيغ الملثمين، وتجاذبات الهوية والذاكرة والأرض والماء.
وفي اشتغال أتى أياماً بعد العرض الشرفي، خاض العرض الضاجّ بالرموز/ الطلاسم، في نسقية الصراع القبلي المحموم بالنقائض، والمترع بقصة الحب المأزوم بين لوعة (إيشو) والسرّ المدفون في قلب (شمّة) تحت سطوة الأنثى الحاكمة.
ورغم محاولة العاشقين الفرار بحبّهما من قبيلتيهما، إلاّ أنّ أتون الرعونة يصادر الصوت الهادر "نحن في بعضنا"، ويموت جعفر على وقع تضارب قيم الوفاء والنبل والصدق وصيانة العهود في تجربة حرص مصمّمها "عبد القادر عزوز" على منحها لمحات (كرنفالية) مشحونة برقصات التمزّق والصلح والفرح المغنّى، مع الاستعانة بطقسية شايب عاشوراء، والروح الجنوبية/ الإفريقية الإيقاع، فضلاً عن أزياء وأغراض القارة السمراء وما تعلّق بها من أكسسوارات.
الأكيد أنّ تجربة "إيشو" المهجوسة بماهية التعايش ومساءلة الفرجة، لا تزال في طور التشكّل، وطاقمها مدعو لتعميق ما لا يقلّ عن ستة أبعاد للتجربة التي يُحسب لطاقمها توظيفه المتجدد لنواميس البيئة الصحراوية الجزائرية، وتفعيله هامش الاشتغال على اللغة البصرية والتطلع لتشكيل الفراغ.
بيد أنّ العمل يبقى بحاجة ماسة إلى إنضاج العلاقة بين الشخصيات وإنماء أبعادها، وذاك يفرض تعزيز لحمة على صُعُد النص والإخراج والتمثيل والموسيقى والسينوغرافيا، مع إيلاء أهمية لاستكشاف المؤدين وانخراطهم في النص بعقلية (فكّ شيفرات النص) وليس (بإلقاء النص)، حتى لا يسقط المتلقون في دوامة التشويش.
ويتعين على عرّابي "إيشو" تكثيف يوازن مناحي المنطوق والحركي والمؤثرات، إضافة إلى استثمار أوسع لأدوات الفرجة، واستبعاد بعض الابتذال، ناهيك عن حتمية تقويم اختلالات الإضاءة.
تنويع على مصفٍ مغاير
نتصور بأنّ تقديم "إيشو" في فضاء خارج العلبة الإيطالية، سينتج الكثير، وسيبعد طاقمه عن (لغط) تحطيم الجدار الرابع، وهنا نعيد طرح تساؤل مهمّ يخصّ سببية زهد ممارسي المسرح جنوباً في توليفة المسرح الصحراوي الذي بوسعه استيعاب رصيد فرجوي هائل.
وإذا كان هذا المسرح الصحراوي الذي يبرز في الإمارات والسعودية والكويت وقطر وسلطنة عمان وموريتانيا والمغرب، وبشكل محتشم في مصر وتونس، فإنّ الجزائر لا تزال تتعاطى عقلية (الكرسي الشاغر) مع لون يرتبط بـ:
أ-دلالة المكان باعتبار الصحراء فضاءً مفتوحًا.
بـ-دلالة الحمولة الثقافية، تبعًا لامتدادات الصحراء وما تشتمل عليه من ألوان الإبداع.
ويقف المكان في المسرح الصحراوي، سيّدًا آمرًا ناهيًا، فالصحراء عمق واتساع وتنوع وسكون، وهي مساحات فارغة أيضًا، بإقرار المخرج والناقد والممثل والكاتب البريطاني الراحل بيتر بروك.
ولعلّ فراغ الصحراء هو فراغ بليغ موحٍ، ومساحات هذا الفراغ مكثّفة بدلالات الرمال والنخيل والخيام والمرابع والنجوم المضيئة والأقمار المنيرة والنوق وملاحم الفروسية وغيرها من علامات الوجود الإنساني، وهي كلها مكوّنات مشاهد صحراوية تؤسس فضاءً مسرحيًا مغريًا في الإخراج.
ومن زاوية بيداغوجية، ننوّه إلى أنّ خصوصيات المسرح الصحراوي تقوم على:
1 – المسامرات: موضوعها الحكايات والأمثال والأساطير والروايات والأشعار، والبطولات، فالمسرح الصحراوي أعاد الاعتبار لثقافة المسامرة العريقة في البيئة الثقافية العربية التي تبلورت في ألف ليلة وليلة (سمرٌ حتى السحر)، مروراً بمقامات الهمذاني والحريري، ومسامرات الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي.
2 – الاحتفاليات: مادتها الغناء، التعبيرات الجسدية، والرقصات الطقوسية: أعاد المسرح الصحراوي الاعتبار للفنون الأدائية بعدما ساد الاعتقاد– خطأً – بأنّ العرب برعوا وأبدعوا وتخصصوا فقط في فنون القول، وتحديدًا فن الشعر وحسب.
3 – الفضاء المفتوح: بشكل مغاير للخشبة الإيطالية وعروض مسرح الشارع، يأخذ الركح في مسرح الصحراء، طابعًا أكثر شساعة، حيث يمكن للأحداث أن تدور في مساحة تمتدّ لما يربو عن المئة متر.
ويتيح هذا الفضاء توظيف ديكورات ضخمة واستخدام الجِمال والجِياد والخيام والنيران، وكل ما يراه المسرحيون مناسبًا لتكثيف الفرجة وصنع الجمال.
4 – العدد الكبير من المؤدّين: يمكن للتجارب الصحراوية أن تستوعب أعداد كبيرة من الممثلين والمغنين والراقصين، فضلاً عن الفرسان.
5 – المواضيع الأسطورية: يهتم المسرح الصحراوي بتجسيد القصص الأسطورية من قصص وحكايات وما تتضمنه من عشق ومعارك ومساجلات، ويقدّمها في قوالب ملحمية شبيهة إلى حد ما بالدراما الرمضانية، لكنها غير ذلك.
واللافت أنّه في أقصى الصحراء وفي مواسم للتجارة، تقام أسواق أسبوعية ببسكرةوورقلة وتمنراست وأدرار وغيرها من مناطق الجنوب، يقصد هذه الأسواق، البسطاء من الناس لبيع الماعز واقتناء الزيوت وغيرها من الحوائج، ويقف (المدّاحون) ينشدون ويؤدون أدوارًا تضحك الناس وتسري عن أنفسهم الهموم، بينما يُنشد الشعراء قصائد تلهي الناس عن مقاصدهم الأولى، فيختلط الحابل بالنابل وتسري عدوى الفضول في أوساطهم ويُصبحون مُشاهدين بعد أن كانوا باعة ومتسوقين.
وفي هذه الفضاءات غير المهيّأة بالضرورة لهذه الوقفات الفنية، يختلط الشعر بالغناء وتعانق النكتة الجدل والحذلقة في القول، وتعلو لحظات الأداء، فيتحول المداح الشعبي إلى ممثل متأهب، أو يقوم بذلك مقلد (ممثل) عجيب ينظر إلى الناس في لمح البصر يستقرئ عيونهم وقلوبهم وأفكارهم ليؤثر عليهم ويجلب كل اهتمامهم ... إنها لحظات الاستحواذ المطلق ...
وهذه اللحظات تبرز أيضًا في الاستعراضات السنوية بواحة تيميمون الحمراء التي تشهد سبعة أيام بليالها يقيمها أهل تيميمون للإنشاد والرقص الصوفي والمدائح الدينية فتتشكل لوحات مبهرة للناظر، هي مواسم للتمثيل من خلال إعداد الملابس والأزياء والتدريب على الأداء... وهي مواسم للأدب الرفيع والقصائد الطويلة والمديح الديني المعتق بالصوفية والتجلي.
ومثل هذا الاستقطاب الأدائي استوقف بيتر بروك لدى زيارته ورقلة في مناسبتين، فصنّف ذلك في خانة "المسرح الجديد".
البطاقة الفنية:
إيشو (75 دقيقة)
إنتاج: مسرح بسكرة الجهوي (ديسمبر 2023)
إخراج : عبد القادر عزوز
نص : الشيخ عقباوي
معالجة درامية : هشام بوسهلة
سينوغرافيا : يوسف عابدي
كوريغرافيا : يوسف مفتاح
تأليف موسيقى : عبد القادر صوفي
مساعد السينوغراف : حمزة عراب
تقني الصوت :عبد الحميد صولي
تقني الاضاءة : سفيان سرسوب/ محمد الصادق دنفر
تقني الخشبة : لزهر فرحات رحماني/ محمد علي لحرش
خياطة الملابس:جودي حراب
المستشار الفني: محمد الأمين بحري
الريجيسور: عبدالمجيد رحمون
رابـح هوادف - ملتيميديا الإذاعة الجزائرية