وجه رئيس الجمهورية, السيد عبد المجيد تبون, اليوم الثلاثاء كلمة للمشاركين في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية المنعقد بإشبيلية, ألقاها نيابة عنه الوزير الأول السيد نذير العرباوي , خلال الجلسة العامة, هذا نصها الكامل.
"بسم الله الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام على أشرف الـمرسلين , السيد رئيس حكومة مملكة إسبانيا، السيد بيدرو سانشيز ,معالي الأمين العام لمنظمة الأمم الـمتحدة، السيد أنطونيو غوتيريش ,معالي رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، السيد فيليمون يانغ ,أصحاب الفخامة والـمعالي ,
السيدات والسادة الكرام.ينعقد هذا المؤتمر الرابع لتمويل التنمية في ظرف دولي يتسم باتساع فجوة التنمية بين الدول، وتزايد عبء المديونية، وتأثر اقتصادات العديد من الدول بتداعيات التغيرات المناخية وتفاقم النزاعات والحروب، بما فيها ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في فلسطين المحتلة وفي غزة الجريحة التي تواجه حرب إبادة تستهدف الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يناضل من أجل استرجاع حقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.السيد الرئيس .. السيدات والسادة،في خضم هذه الأوضاع السياسية والاقتصادية المعقدة والمضطربة، نتطلع لأن يكون هذا المؤتمر محطة فاصلة لتجديد التزامنا المشترك بالانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل الجماعي الفعال عبر صياغة مخرجات جريئة وعملية لإعادة النظر في المنظومة المالية الدولية بصيغتها الحالية، التي لم تعد قادرة على مواكبة التغيرات الجوهرية التي يعرفها عالمنا، ولا على تلبية متطلبات التنمية المستدامة، بل إنها تكرس اختلالات هيكلية، تزيد من تهميش الدول النامية، وتقوض فرصها في بلوغ أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة بحلول عام 2030.
إن هذا الطموح المشروع يجد تبريره في الإجحاف الذي لحق بالقارة الإفريقية التي ما زالت مثقلة بتحديات صعبة في ظل شح مصادر تمويل التنمية وتفاقم عبء المديونية، لا سيما بسبب تكاليف خدمة الدين والفائدة على الديون التي تفوق خمسة (05) أضعاف تلك التي تحصل عليها من بنوك التنمية متعددة الأطراف، وهو ما يقوض نجاعة جهودها التنموية ويزج بها في دوامة من ارتفاع تكاليف التمويل، وانخفاض الاستثمار الرأسمالي، ومحدودية التحول الهيكلي، ويحد بالنتيجة من قدرتها على ضمان الاستقرار والمساهمة بالقدر المطلوب في تحقيق الرفاه المشترك.
إن الديون الخارجية المتفاقمة تعتبر أحد أكبر العوائق التي تكبل دول القارة الإفريقية، وهو ما يحتم إطلاق مبادرات عالمية عاجلة لمعالجة معضلة المديونية، لا سيما من خلال اتخاذ بعض التدابير الحاسمة، ومنها تخفيف عبء الديون والإعفاء الكامل منها لبعض الدول.
إننا نؤمن بأن النظام متعدد الأطراف بحاجة إلى ترسيخ مبادئ العدالة والإنصاف، بما يخدم مصالح جميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، دون استثناء. ولهذا فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى إصلاح شامل للهيكل المالي العالمي، وتمكين البلدان النامية من المشاركة في حوكمة المؤسسات المالية العالمية، بحيث تعكس هياكل صنع القرار حقائق عالم متعدد الأقطاب، يخدم تمويل التنمية لجميع الدول.
وفي هذا الإطار، ندعم مشروع إنشاء إطار عمل أممي يهدف إلى سد الثغرات في هيكل الديون، واقتراح خيارات عملية وعادلة، لمعالجة استدامة الديون.
وعلى هذا الأساس، أدعو من هذا المنبر إلى إيجاد حلول عاجلة لتحيز التصنيف الائتماني الذي يكبد العديد من بلدان قارتنا تكاليف باهضة، حيث ينبغي العمل على توطيد أساليب أكثر شفافية وعدالة للتصنيف الائتماني. وفي هذا السياق، أعرب عن ارتياحنا لإنشاء وكالة إفريقية مستقلة للتصنيف الائتماني، والتي نتطلع إلى تفعيلها في أقرب الآجال.
السيد الرئيس.. السيدات والسادة،
وبالإضافة إلى أزمة المديونية، يتسبب فرض أطر تنظيمية ومعايير جامدة على الدول المستفيدة من المساعدات التنموية في عرقلة تنفيذها للمشاريع ذات الأولوية، ويحد من فاعلية التعاون الدولي، لذا فإننا ندعو إلى انتهاج سياسات أكثر مرونة وواقعية في توجيه هذه المساعدات، تقوم على الشراكة والتفاهم المتبادل، بدلا من الإملاءات والشروط المسبقة التي لا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الوطنية والسياقات المحلية.
وفي نفس السياق، أود التأكيد مجددا على أهمية ترقية التعاون الدولي من أجل التنمية، وتعزيز التضامن بين الشعوب، لا سيما من خلال تنشيط دور الأطر الدولية ذات الصلة على غرار "منتدى تمويل التنمية"، و "المنتدى المعني بالتعاون الإنمائي"، باعتبارها آليات دولية جامعة، تساعد على إنجاح المبادرات التي تتخذ من أجل دعم التنمية.
ولا يفوتني أن أذكر بأن التمويلات الخاصة، رغم أهميتها، لا يمكن أن تعوض المساعدات التنموية العمومية، أو أن تحل محلها، خصوصا في الدول التي تواجه هشاشة اقتصادية أو ضعفا في البنى التحتية. وعليه، فإن الرهان على القطاع الخاص وحده لتمويل التنمية لن يكون كافيا، ما لم يرافقه التزام دولي قوي بتعزيز المساعدات التنموية العمومية، ودعم قدرات الدول الأقل نموا والدول الفقيرة على بناء اقتصادات قوية وشاملة تسمح لها بالاستجابة لطموحات شعوبها.
وفي هذا الصدد, أود أن أشيد, أمام جمعكم الموقر, بالمكتسبات التي تم تكريسها على غرار تعهد الدول المتقدمة بتخصيص نسبة 0,7 % من دخلها القومي الإجمالي كمساعدات إنمائية للدول النامية، وهو مؤشر إيجابي لبعث الأمل والمصداقية في مفهوم التضامن الدولي.
وبودي أيضا أن أشيد بالجهود الرامية إلى الحد من الأنشطة المالية غير المشروعة، وبالتدابير الساعية للقضاء على الملاذات الآمنة للتحويلات، وعلى ثغرات التدفقات المالية غير المشروعة.
السيد الرئيس .. السيدات والسادة
لقد جعلت الجزائر من التنمية المستدامة والتضامن الدولي ركيزتين أساسيتين لسياستها الخارجية، وهو ما تجسد بالفعل من خلال مساهمتها المستمرة في دعم جهود التنمية في القارة الإفريقية في مختلف الأطر التعاونية الثنائية ومتعددة الأطراف، فضلا عن انخراطها التام في تجسيد التكامل القاري عبر العديد من المشاريع ذات الطبيعة الاندماجية. بالإضافة إلى ذلك، تعمل بلادي حاليا من خلال الوكالة الجزائرية للتعاون الدولي من أجل التضامن والتنمية، على المساهمة في دعم البنية التحتية، الصحة، التعليم، والطاقة وغيرها من المشاريع التنموية في العديد من الدول الإفريقية، التي خصصت لها ما لا يقل عن مليار دولار أمريكي.
كما أن بلادي، وبتبنيها لسياسة مالية قائمة على تسخير مواردها الخاصة، نجحت في الخروج بشكل كامل من عبء المديونية الخارجية، مما يمكنها من ممارسة دور فعال في مساعدة الدول، التي لا تزال ترزح تحت الديون المتراكمة، التي تشكل عائقا لأهداف التنمية المستدامة.
وفي الأخير، أود التشديد مجددا على ضرورة الإنتقال من مرحلة التشخيص، إلى المبادرة الفعلية، بإيجاد الحلول الكفيلة بتمويل التنمية، آملا أن يشكل مؤتمرنا هذا، نقطة انطلاق لمسار تنموي شامل يستجيب لقناعتنا الراسخة بأن الرفاه المشترك مطلب أساسي وليس خيارا ثانويا، وهو ما لن يتأتى دون رأب فجوة التنمية وتقليص فوارق التقدم بين الدول، بما من شأنه توفير بيئة دولية سانحة للتكفل بمختلف التحديات والأزمات التي يشهدها عالمنا اليوم.
أشكركم جزيل الشكر على حسن إصغائكم".