تحل هذا الأسبوع, الذكرى الـ26 لرحيل مؤسس الرواية الجزائرية الناطقة بالعربية, عبد الحميد بن هدوقة (1925- 1996), الذي عكست أعماله السردية التحولات التاريخية التي عرفتها الجزائر في السنوات الأولى للإستقلال.
حاول بن هدوقة تسليط الضوء على التغيرات المجتمعية والثقافية التي عرفتها جزائر ما بعد الاستقلال من خلال إبداعاته التي تناولت أساسا قضايا الإنسان والمكان والزمان وعلى رأسها رائعته "ريح الجنوب" التي نشرها في 1971, أي تسع سنوات بعد الاستقلال, والتي فتحت الطريق لتقديم أعمال روائية متميزة باللغة العربية.
ولد الراحل في 1925 بقرية الحمرا بالمنصورة بولاية برج بوعريريج, ودرس في صباه القرآن وأصول الفقه واللغة على يد والده الذي كان فقيها ومعلما ليلتحق بعدها بالمدرسة الفرنسية بالمنصورة, وفي 1940 ومع بداية الحرب العالمية الثانية التحق بمعهد "الكتانية" بقسنطينة التابع لحزب الشعب.
وبعد شهر واحد من أحداث 8 ماي 1945 غادر إلى مرسيليا بفرنسا وظل هناك لثلاث سنوات وقد كان له احتكاك بالواقع المرير للمهاجرين الجزائريين وفي 1949 غادر إلى تونس حيث درس بجامع الزيتونة وحاز شهادة في الأدب, كما التحق بمعهد فنون الدراما أين نال شهادة التمثيل العربي, وإلى جانب دراسته كان له نشاط سياسي في الحركة الطلابية بالزيتونة.
وفي 1952 ألقي عليه القبض من قبل السلطات الاستعمارية بتونس وتم سجنه غير أنه تمكن من الفرار والعودة إلى الجزائر أين زاول التدريس بمعهد الكتانية, غير أنه بعيد انطلاق الثورة التحريرية كان عرضه للاعتقال من طرف البوليس الاستعماري فهرب إلى قريته الحمراء ثم إلى فرنسا مرة ثانية.
وفي 1958 عاد مرة أخرى إلى تونس حيث تعاقد مع الإذاعة التونسية تحت إشراف جبهة التحرير الوطني التي قامت بتهريبه من فرنسا, وقام بإنتاج عديد البرامج الإذاعية بالإضافة إلى تمثيليات إذاعية أسبوعية, كما كتب ما يزيد عن 30 تمثيلية تتعلق بالثورة التحريرية وبالجزائر.
وبعد ثلاثة أشهر من استرجاع الجزائر استقلالها قرر العودة إلى الجزائر حيث حط رحاله بالعاصمة في أكتوبر 1962 ليلتحق مباشرة بالإذاعة والتلفزيون الجزائري ويقوم بتأسيس الفرقة الفنية التابعة للإذاعة والتلفزيون الجزائري التي كانت تضم أغلب الممثلين والفنانين الجزائريين.
في مجال الأدب, توجه الراحل نحو الكتابة الروائية والقصصية إذ وجدها ملائمة للتعبير عن قضايا مجتمعية كانت محبوسة داخله, فكتب عن الواقع الجزائري في تجلياته المختلفة انطلاقا من البيئة الريفية التي تربى فيها والتي عانت من اضطهاد المستعمر, كما تطرق إلى التحديات التي واجهتها البلاد غداة الاستقلال من خلال قضايا انسانية.
ورغم أنه كتب في الشعر والمسرح والقصة إلا أنه تميز أساسا بأعماله الروائية التي تناولت قضايا وطنية واجتماعية مختلفة, وقد كانت المرأة والأرض والثورة التحريرية والتاريخ والثقافة والتراث من المواضيع التي أراد دائما تجسيدها في أعماله.
وإن كان بن هدوقة يبرز دائما في إبداعاته معاناة السكان الكبيرة كنتيجة لما خلفته فرنسا الاستعمارية وراءها, إلا أن أبطاله كانوا دائما متمردين ومشبعين بأفكار جديدة ومقاومة, رافضة للأوضاع القائمة ومصرة على الإصلاح والتغيير.
لقد كانت بداياته الأدبية في 1952 مع الشعر, ورغم انطلاقته الشعرية هذه إلا أنه اشتهر أكثر برواياته على غرار روايته الأولى "ريح الجنوب" التي شكلت تحولا كبيرا في السرد الجزائري واعتبرت تأسيسية في الكتابة باللغة العربية في الجزائر.
في عام 1975 تم اقتباس هذه الرواية إلى فيلم تلفزيوني من طرف المخرج سليم رياض شارك فيه عدد من كبار الممثلين الجزائريين, فلقيت نجاحا جماهيريا كبيرا, ويعد هذا الفيلم من الأعمال السينمائية الجزائرية النادرة التي اقتبست من روايات.
أصدر بعدها الراحل أعمالا روائية أخرى من بينها "نهاية الأمس" (1975) و"بان الصبح" (1980) وكذا "الجازية و الدراويش" (1983), التي حققت بدورها نجاحا كبيرا أيضا, بالإضافة إلى "غدا يوم جديد" (1997).
وكتب بن هدوقة أيضا في القصة القصيرة فألف "ظلال جزائرية" (1961) و"الأشعة السبعة" (1962), كما ألف في الشعر فكانت له "الأرواح الشاغرة" (1967), إضافة إلى كتاب حول الأمثال الجزائرية بعنوان "أمثال جزائرية" (1992).
وللروائي أيضا تجربة هامة في مجال الترجمة حيث قام بترجمة العديد من الأعمال على غرار مجموعة من القصص من الأدب العالمي (1983) ومسرحية "قصة في إيركوتسك" (1986) وكذا دراسة للمحامي الفرنسي جاك فرجيس بعنوان "دفاع عن الفدائيين" (1975).
ترجمت أعمال بن هدوقة إلى عدة لغات, وقد نالت أيضا اهتمام الباحثين والأكاديميين, كما نظمت العديد من الملتقيات والندوات حول مسيرته وأعماله, هذا واحتفت به أيضا جائزة "كتارا" القطرية للرواية العربية في 2016 واختارته "شخصية العام".
تقلد الراحل عدة مناصب متعلقة بالثقافة وعالم الكتاب إذ كان مديرا للمؤسسة الوطنية للكتاب ورئيسا أيضا للمجلس الأعلى للثقافة, وفي عام 2017 وشح بوسام الاستحقاق الوطني من مصف "جدير".