لا تزال العديد من العائلات التبسية على غرار عدة ولايات منطقة الأوراس حريصة على التمسك بعادة "فتل الكسكسي" وتحضيره في المنزل بالطرق التقليدية وتجنب اقتناء الكسكسي المصنع الذي يتم بيعه في المحلات والأسواق، على اعتبار أنه "أقل جودة" من الكسكسي المفتول يدوياً.
بغض النظر عن الجودة بأجراء المقارنات والعودة الى رأي مختصي التغذية، فإنّ المرأة التبسية تفتخر بحفاظها على عادة فتل الكسكسي المتوارثة عبر الأجيال والتي تجعل منه معياراً لربة البيت الحاذقة والماهرة في فنون الطبخ عموماً والفتل خصوصاً.
وتتم طريقة الفتل عن طريق التقاء النسوة وتجمعهن في فناء المنزل الكبير للقيام بفتل الكسكسي وسط أجواء يسودها التعاون والتبادل أطراف الحديث والذكريات والغناء التقليدي والزغاريد .
ومع بداية حلول فصل الربيع وارتفاع درجات الحرارة، تجتمع النساء في منزل كبير به فناء واسع لتحضير الكسكسي بكميات تكفي لاستهلاكه طيلة السنة وفق ما يطلق عليه "العولة" حيث يتم تخزين وحفظ هذه الكميات من الكسكسي بالحفاظ على معياري الجفاف والبرودة وتجنب الرطوبة والارتفاع الكبير لدرجة الحرارة مخافة أن يصيبه السوس أو التلف.
واعتبرت فاطمة الزهراء من مدينة تبسة وهي ربة بيت سبعينية، أنّ كيساً كبيراً من الكسكس بحجم 25 كيلوغراماً يعدّ ضرورياً في كل بيت، كما تتيح هذه الكمية، بحسبها، الاكتفاء باستهلاك هذه المادة لسنة كاملة، مشيرة إلى أنّ معظم العائلات التبسية لا تزال تحتفظ بهذه العادة على الرغم من عديد الأنواع والماركات الموجودة على رفوف المحلات.
وقالت المتحدثة إنّ النسوة يجتمعن في يوم ربيعي مشمس حول "القصعة المملوءة بالسميد الذي يتم رشه تباعا بكميات صغيرة من الماء والملح حتى تتشكل الحبيبات الناعمة التي يتم تصفيتها بالغرابيل حتى الحصول على الكسكس، منه الخشن أو "السفة" والمتوسط والرقيق والذي يُطلق عليه "المسفوف".
وبعد تكرار عملية الفتل والغربلة لعدة مرات وفرز حبات الكسكس، يتم طهيه بالبخار وفق ما يسمى محلياً بـ "التفوار" وهي عملية تتم في قدر كبير من الماء المغلي والكسكاس، ليتم في الأخير تفريشه ونشره على قطع كبيرة من القماش النظيف على الارض في مكان بارد تحت الظل ليبرد ويجف تماما، ثم يتم تخزينه في أكياس من "الخيشة".
من جهتها، قالت نصيرة إنّ تويزة فتل الكسكس تعد مناسبة ينتظرها أفراد العائلة للاجتماع والاستمتاع وشم رائحة تفوير الكسكس التي تنبعث في أرجاء كل بيت، مشيرة الى أنه ومع ارتفاع درجات الحرارة، تجتمع النسوة كل يوم في بيت أحد افراد العائلة للفتل.
وتسود جلسات "التويزة" أجواء من المرح والمتعة والمؤانسة، حيث تقضي النساء طيلة اليوم في "فتل الكسكس" دون شعور بالملل وكلهن نشاط وحيوية مستعدات لإعداد كمية كبيرة من الكسكس تكفي لكل العائلة.
وأبرزت الجدة مبروكة: "لا مكان لكسكس المحلات" في بيتها، حيث أنها "لا تجد فيه الطعم الذي يروق لها"، مضيفة أن أفراد عائلاتها يفضلون وجبة السحور خلال شهر رمضان الفضيل التي تتكون عادة من كسكس مفور وبارد ولبن أو مسفوف بالتمر والزبيب يتم تقديمه مع الحليب البارد أو الرائب.
في المقابل، أفادت وهيبة، وهي إمراة عاملة وأم لطفلين، أنها تفضل شراء الكسكسي الحاضر في المحلات، حيث تقتني الكمية التي تريد تحضيرها في كل مرة، دون الحاجة الى شراء كمية كبيرة من الكسكس المفتول وتخزينها في أكياس من "الخيشة".
وأضافت أنه بالرغم من كون الكسكس المفتول اقتصاديا حيث لا يتجاوز سعر الكيلوغرام الواحد منه 80 ديناراً، مقابل 150 ديناراً لذلك المصنع، فانها تفضل هذا الأخير كونه يسمح لها باقتنائه عند الحاجة ويجنبها مشاق التخزين.
"الفتل" مصدر رزق للحرفيات
كشفت السيدة الزهرة، وهي في منتصف الخمسينيات من عمرها، أنها تتخذ من فتل الكسكسي مصدر لإعالة أبنائها، مشيرة الى أن النساء التبسيات يفضلن شراء الكسكسي المفتول تقليدياً على ذلك الذي يباع في المحلات التجارية.
وأضافت أنها تقوم بفتل الكسكسي ومشتقاته من مسفوف وبركوكش أو "البركوكس"، اضافة إلى تحضير شخشوخة الورقة وشخشوخة الظفر والثريدة، لكسب بعض الأموال لإعالة أسرتها، حيث لاقت اقبالاً كبيراً من النساء خاصة العاملات اللائي لا يملكن متسعاً من الوقت لفتل الكسكسي.
وأكدت أنّ الاقبال يزداد مع حلول فصل الصيف، خاصة بحلول موسم الأفراح والنجاحات في امتحانات أخر السنة، وقبل شهر رمضان الفضيل.
وقالت إنها ورثت هذه الحرفة من والدتها المرحومة حيث كانت تساعدها منذ نعومة أظافرها في فتل الكسكس وانتاج العجائن، معتقدة أنّ الكسكسي المفتول بالأيدي لا ينافسه كسكس أي مصنع مهما تطورت الآلات وتعددت التجهيزات.
وأضافت أنّ العائلات التبسية لا تزال تحافظ على هذه العادة الى غاية اليوم، حيث تتهافت ربات البيوت ممن لا يستطعن تحضيره الى اقتناء الكسكس التي تحضره كل حسب حاجتها، فمنهن من تشتري 10 كيلوغرامات وأخريات تفضلن شراء 25 كيلوغراماً لضمان توفر الكسكسي بالمنزل طيلة السنة.
وخلصت الخالة الزهرة الى أنه وعلى الرغم من مشقة وتعب فتل الكسكس، إلى أنّها تسعى جاهدة لتحضيره بكل حب وتفانٍ في العمل وتحرص على تجفيفه جيداً، مشيرة الى أنها تختار أجود أنواع السميد للحصول على نوعية ممتازة من الكسكسي.